دكالة في تاريخ المغرب

دعوة الحق
220 العدد

ليس من منهاجي هنا أن ابدأ القصة من أولها وأتحدث عن حياة الإنسان القديم في المغرب عموما ودكالة خصوصا . لان الأدلة العلمية أثبتت أن حياة الإنسان في بلادنا عريقة في القدم ضاربة جذورها في أعماق التاريخ . وقد تركت لنا هذه الحياة بعض ما أبقى عليه الزمان من أدوات حضارية كان الإنسان القديم يستعملها في حياته اليومية. ومصالحه المعاشية وهو في طريقه إلى التحضر والاستقرار..؟ وفي هذا الإطار تدخل تلك المخالفات التي يتلاحق ويتتابع ظهورها بعد الحفر والتنقيب في عدة جهات من المغرب. حيث نجد في بقاع من إقليم درعه جنوبا. وفي بقاع مجاورة لشواطئ البحر المتوسط غربا. وفي أماكن أخرى سهلية وجبلية كهوفا ومغارات ما تزال إلى الآن تحتضن أدوات حجرية كان الإنسان المغربي القديم يستعملها في الحفر والقطع والنقب والكسر والدفاع عن النفس .والصيد وما إلى دلك...
ومغارة سيدي عبد الرحمان في البيضاء ليست بعيدة عنا ...كما أن مغارة الخنزيرة بدكالة , جنوب مدينة - الجديدة- قريبة منا ...(1).
فالإنسان المغربي شمالا وجنوبا وشرقا وغربا عريق بالسكنى والتحضر بهدا الوطن. وقد شاهد عصور التاريخ . وجاوزها إلى ما قبل التاريخ ... !
والنماذج التي يقدمها لنا الآن سكان المغرب في السهول والجبال هي نماذج اشترك في تكوينها عامل الاستمرار التاريخي. وعوامل التطور الحضاري والاقتصادي والاجتماعي. حينما التقت هنا موجات بشرية من الجنوب والشرق و الشمال...وكونت هذه الوحدة المغربية الأصيلة في تاريخها المتماسكة في بنيتها . المتفتحة على آفاق التطور والتجديد...
من هذه الأرضية الثابتة وعلى هذا الجسر من التفسير الاجتماعي والجغرافي سنعبر للحديث عن دكالة في التاريخ ...
والمنهاج يحتم علينا أن نقف قليلا عند كلمة –دكالة- لنحاول البحث في أصلها اللغوي من جهة. وفي دلالتها من جهة ثانية. وفي تاريخ استعمالها عند المؤرخين والجغرافيين والرحالين.
ففيما يرجع للأصل اللغوي للكلمة هناك طريقتان للبحث. طريقة من يرجع بها إلى أصل عربي. فيعتبرها عربية المادة الحرفية. عربية الدلالة اللغوية. ويلتمس معانيها من معاجم اللغة العربية.
وهناك طريقة من يرجع بها إلى أصل غير عربي فيعتبرها امازيغية الأصل مركبة من شطرين أضيف احدهما إلى الآخر كما سنرى فيما بعد ...
والبحث العلمي الدقيق يقف في مثل هذه الموضوعات موقف التحفظ والاحتياط والحذر لئلا يقع في مآزق وقع فيها سابقون ولاحقون .
واذا أخدنا المعاجم العربية وقد كتب بعضها منذ قرون خارج المغرب فإننا نجد هده المعاجم تحتفظ بالمادة الحرفية..د-ك-ل- كما تحتفظ بالمعاني اللغوية التي تعطيها هذه المادة ... ونحيل من أراد معرفة هذه المعاني على معجم تاج العروس (2) شرح القاموس ليرى هناك المعنى المناسب . كما نحيله على معجم دوزي DOSY أيضا … !(3) .
أما اذا رجعنا بكلمة –دكالة- إلى أصل غير عربي فإننا نجد عدة توجيهات وتفسيرات ولا نريد الآن استقصاءها وإنما نشير إلى بعضها فقط. حيث يقول هذا التوجيه أن الكلمة ذات شطرين : دو معنى أسفل. واكال. بمعنى البلد. فيكون المراد على هذا التوجيه. الأرض المنخفضة أي السهل المنبسط من الأرض...
وبطبيعة الحال فإننا لا نجزم جزما. ولا نفرض رأيا ولا نفضل توجيها على آخر. وإنما نفسح الطريق أمام البحث والدرس لتكون النتيجة دائما مدعمة باستنتاج معقول أو نص موثوق به... !
والمعاجم تأبى إلا أن تضبط كلمة –دكالة- فهناك ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان فيضبطها بفتح الدال(4) ... أما صاحب القاموس المحيط فيضبطها بضم الدال وتشديد الكاف ...ويحكى عن الصاغاني فتح الدال (5)...والنسبة إليها دكالي. وقد اشتهر بهده النسبة عدد كبير من الاعلام في كتب التراجم والطبقات. في داخل المغرب وفي الأقطار الإسلامية الأخرى...
وغني عن التأكيد أن الاستعمال المغربي للكلمة هو بصيغة الضم وتشديد الكاف كما عند صاحب القاموس المحيط.
و اذا انتقلنا إلى دلالة الكلمة في أقلام المؤرخين ونصوص الجغرافيين والرحالين القدماء فإننا نجد دلالات متعددة ... فهناك من يعبر بالمدينة ...؟ وهناك من يعبر بالقبيلة ...؟وهناك من يعبر بالإقليم...؟ ونفهم من بعض النصوص إنها تعني اتحادا أو تجمعا يستوعب عدة قبائل انحازت على ممر العصور إلى هذه الناحية المعينة، بسواحلها، وسهولها ومرتفعاتها... وكونت دكالة التاريخية ودكالة المعاصرة.
ومعلوم بالاستقراء والتتبع ان مدلول دكالة عند الإطلاق في المصادر القديمة يختلف بعض الشيء عن مدلولها عندنا الآن. بل إننا وجدنا هذا المدلول يضيق تارة ويتسع أخرى . حسب العصور التاريخية والأحوال الاجتماعية و السياسية التي سادت البلاد. و التيارات البشرية التي عرفتها هذه الناحية...
غير انه مما لا شك فيه أن عوامل جغرافية وتاريخية وبشرية عملت عملها لجعل مدلول كلمة –دكالة- ينصرف إلى هذه المنطقة المحددة بين نهر أم الربيع ونهر تانسيفت. والحوز والمحيط. وحتى هذا التحديد لا يخلو من تسامح... لاعتبارات لا يدركها حق إدراكها إلا من يزاول المصادر التاريخية والجغرافية القديمة والحديثة... ويرى في بعضها التناقض والخلطة والغموض والابتعاد عن الواقع الجغرافي والتاريخي للمنطقة . وليس من مناهجها أن تساير التقسيمات والتفريعات الجزئية التي ظهرت وتظهر لدكالة على تعاقب العصور فلا نتعرض لقصة دكالة البيضاء. ودكالة الحمراء. وما يفصل بينهما... ولا نتعرض لقصة القبائل الشرقية وأختها الغربية...كما لا نتعرض للجدل الذي يقوم حول أسماء بعض الوحدات
القبلية القديمة. هل هي داخلة تحت مفهوم كلمة دكالة أو لا...
وذلك لسببين أساسيين:
الأول –إن الفواصل الطبيعية أو الوهمية التي قامت عليها هذه التقسيمات والتفريعات إنما كانت اجتهادات متبوعة بدوافع ظرفية لا تثبت أمام الواقع التاريخي والبشري لهذه المنطقة من المغرب.
الثاني-إننا ننظر إلى المنطقة بمنظار تاريخي جغرافي، لا بمنظار آخر يجعل في تقديره هذه التقسيمات التي كان بعضها محليا ظرفيا... كما كان بعضها نتيجة عمل البرتغاليين أيام الاعتداء على شواطئ المغرب ومنها دكالة...
بعد تحقيق هده الدلالة - في الجملة ننتقل إلى محاولة معرفة الزمن الذي استعملت فيه هذه الكلمة في أقلام المؤرخين والجغرافيين والرحالين.
لحد الساعة لم نطلع على نصوص رومانية أو فينيقية وردت فيها كلمة -دكالة- كما إننا ولحد الساعة لم نطلع على نصوص من تاريخ المغرب الإسلامي أو جغرافيته في القرون الأولى وردت فيها الكلمة لا بالمعنى القبلي. ولا بالمعنى الإقليمي حسب الاستقراء والتتبع ... وسنشير فيما بعد إلى أن ابن عذارى استعملها في إخبار عقبة بن نافع أثناء فتوحه في المغرب.
وقد رحل إلى المغرب رحالتان شهيران في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي وهما ابن حوقل، والمقدسي، ونصوص رحلتيهما بين أيدينا... ولكننا لا نجد فيهما ظلا ولا اثر لكلمة دكالة. والمظنون انه لو كانت هذه الكلمة مستعملة اذ ذاك لذكرها ابن حوقل. فقد أفادنا هذا الرحالة بالشيء الكثير عن أسماء القبائل .والمدن. والقرى. والأقاليم. والأنهار. والجبال. والرباطات زيادة على المسالك. وطرق القوافل التجارية المستعملة في ذلك العصر... ؟
وابتداء من عصر المرابطين بدأنا نسمع كلمة دكالة تدور على الألسنة والأقلام وتستعمل في تدوين الأحداث...ونؤكد ما اشرنا إليه سابقا من أننا لم نطلع على هذه الكلمة في نص مكتوب قبل هذا العصر...
ومن أقدم النصوص التي وردت فيها كلمة دكالة ما نجده عند الجغرافي المغربي الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق الذي يشتغل بتأليفه سنة 548 هجرية يعني بعد سقوط دولة المرابطين بسنوات معدودات. وقد تحدث الإدريسي عن المرابطين وواقع بعض الأقاليم المغربية على عهدهم. ومن جملة هذه الأقاليم دكالة. ويظهر من نص الإدريسي انه كان يستعمل كلمة دكالة في الدلالة على الإقليم لا على القبيلة أو القبائل كما يظهر من نصه أيضا أن مدلول الكلمة جغرافيا كان متسعا يصل إلى السوس ويشمل تارودانت... ! والإدريسي يسجل في دلك العصر ما علم أو شاهده بنفسه من اتساع مرافق دكالة وما بها من قرى ومدن ومراس وفلاحة و سكان (6) ...
وفي نفس العصر زار الإمام أبو بكر ابن العربي المعا فري (7)المتوفى سنة 543 هـ دكالة في طريقه إلى مراكش وسجل مشاهداته بها ولاحظ جودة التربة وقلة المياه . وقد نقل كلامه عدد من المؤرخين ويمكننا بعد هذا أن نستنتج أن كلمة دكالة كانت مستعملة في عصر المرابطين .لكننا لا نستطيع- بناء على المادة التاريخية التي بين أيدينا- إن نجزم بأنها إنما نشأت في هذا العصر...؟
أما في عصر الموحدين فإننا نجد هذا الاصطلاح قد تقرر واشتهر على الألسنة والأقلام...
فنجده عند البيدق مؤرخ ابن تومرت(Cool...كما نجده عند مؤلف كتاب : الاستبصار في عجائب الأقطار (9)... وعند المراكشي في المعجب (10)وعند ابن القطان في نظم الجمان (11).
والملاحظ عند إمعان النظر في هده النصوص التي جاءت في هذه الكتب والتي الفت في ظل سياسة الموحدين...أن مؤلفيها كانوا يشيرون في استعمالهم لكلمة دكالة إلى الدلالة القبلية لا إلى الدلالة الإقليمية…..
وقد رأينا الإدريسي الذي كتب قبلهم مؤلفة نزهة المشتاق، ينهج في استعماله لكلمة دكالة منهاج الإقليم لا منهاج القبلية...ومعلوم إن الإدريسي لم يكتب ما كتب وهو متاثر بسياسة الموحدين بل يظهر انه كان غير راض عن هذه السياسة ...ويتجلى دلك في كونه تعمد ان يقاطع المادة اللغوية الذي أخذ الموحدون منها اسم دولتهم وشعارها ومذهبها...فلا يستعمل ما يستعمله مؤرخو دولتهم من كلمات : التوحيد، والموحد، والموحدين والدولة الموحدين....والمهدي...والمعصوم...وإنما يستعمل شيئا آخر وهو دولة المصامدة، أو دولة المصاميد....ويقول عن المهدي...انه محمد بن تومرت المصمودي وهكذا. وبعد عصر الموحدين أخذ مدلول كلمة دكالة يستقر في الكلمة الإقليمية مع ضيق وسعة حسب الظروف والملابسات...ولا ننسى أن المؤرخ ابن عذارى وهو من عصر بني مرين ذكر دكالة أثناء حديثه عن عقبة بن نافع (12)...؟
بعد هذه التحديدات والتحليلات ننتقل إلى الحديت عن العناصر البشرية التي التقطت في هذا الإقليم وكونت على ممر العصور الوحدات التي اخذت أسماء متعددة، منها المندثر ومنها ما لا يزال قائما ومعروفا إلى الآن ...؟
إن تتبعنا لمواطن القبائل المغربية القديمة مند اتصل بها التاريخ واشتهرت بأسمائها ووحداتها وما تكون من هذه الوحدات من تجمع. أو اتحاد. أو لف. يعطينا ان دكالة باعتبارها إقليما ذا سواحل وسهول ومرتفعات تجاور لمجموعة المصمودية المستوطنة بجبال درن وما يجاور هده الجبال من سفوح ومرتفعات..من جهة الجنوب .. كما أنها تجاور من جهة الشمال مجموعة صنهاجة ازمور بينما يرجع البعض الآخر بأصوله إلى مصمودة درن...
ومصمودة درن قديمة الاستيطان هناك، والأدلة التاريخية متوفرة. ويكفي أن نعلم –حسب الاستقراء- ان البحث العلمي الدقيق لا يعرف والى الآن موطنا لمصمودة قبل جبل درن ...فمنها تفرعت الفروع ومنها خرجت الجموع....
أما صناهجة ازمور فالمضنون أنها تنتمي في أصولها إلى نفس الأصول التي تنتمي إليها صنهاجة الشمال وصنهاجة الجنوب...وهذه الأصول-كما يقول المؤرخون والنسابون-ترجع الى الصحراء..فهي الموطن المعروف لها ويبقى السؤال قائما...
متى انفصلت صنهاجة ازمور عن أختيها في الشمال والجنوب...ومتى التحقت بمقرها في ازمور وما حوله...؟ وما هي الوحدات الصنهاجية التي تكون مع الوحدات المصمودية وغيرها هذه الوحدة الدكالية...؟
على أننا نعلم من خلال حركة التاريخ ان هناك عوامل اضافت الى الوحدات الصنهاجية والمصمودية في دكالة عناصر أخرى في عصر المرابطين ثم في عصر الموحدين ثم في العصور المتتابعة...؟
فقد أتاح المرابطون لدكالة عدة فرص للاستقرار والأمن والتكتل والمعاش المناسب. حيث أنهم بمواقفهم الحازمة من النحلة البرغواطية وما عاملوا به من كان منضويا تحت لوائها في تامسنا وغيرها. قد مكنوا دكالة من الأمن والتفرغ إلى العمل والاكتساب بعد ان كانت –ولمدة طويلة- تشتبك مع البرغواطيين في حروب و نزعات معاشية ومذهبية... فإذا انظم إلى هذا العامل أن قبائل صنهاجية و اخرى مصمودية تحركت على عهد المرابطين من الجنوب إلى الشمال والغرب واستقر بعضها في دكالة. كان العصر المرابطي قد أضاف إلى الوحدات القديمة وحدات أخرى من صنهاجة و مصمودة درن (13) .
هذا عن الناحية البشرية في عهد المرابطين. أما عن الناحيتين الفكرية والمذهبية، فإن المرابطين غرسوا في دكالة وفي غيرها من أقاليم المغرب التفكير السني، والمذهبية المالكية وبذلك انتشرت في دكالة مساجد الصلاة و معاهد العلم، وظهر في الدكاليين رجال من اهل العلم و الفضل والعبادة و التربية الصوفية... و اخذت الرباطات تضم العباد و العلماء و زعماء الزوايا (14)..
و يكفينا هنا أن نشير إلى موقف المرابطين من زاوية امغار و رجالها حيث أنهم كانوا يقدرون أعمالهم التربوية و يشجعونهم على اداء رسالتهم في هذه الناحية، بل انهم كانوا يستشيرونهم في القضايا و الملمات. و التاريخ لا ينسى رأي أهل زاوية أمغار في تحصين عاصمة مراكش بالأسوار، يوم ظهر ابن تومرت بدعوته التي استهدفت القضاء على المرابطين وذلك صرح عاصمتهم (15)...
و احتفظت دكالة – من الناحيتين الفكرية و المذهبية بما غرسه فيها المرابطون - و لقد لقيت ولقي رجالها على عهد الموحدين تضييقا و تحريجا بسبب موقفهم المتصلب من دعوة المهدي ومذهبية الموحدين المعروفة...
و لا حاجة تدعونا الآن إلى تحليل هذه النقطة من تاريخ دكالة، لاننا نحيل من اراد التعمق في دراستها على المصادر المتعددة التي عنيت بتاريخ الموحدين و تاريخ العلم و العلماء في عهدهم... و موقف دكالة و جاراتها من الموحدين و مذهبيتهم جعل عملهم فيها يتسم بالشدة والعنف (16) ... فيما يقول المؤخرون...
فمن جهة كانوا يودون أن عاصمتهم مراكش تكون وسط جيران يشايعون الدولة و يدافعون عنها و يربطون مصالحهم بها... و قد حققوا ذلك فعلا مع مصامدة الجبال الذين أولوا السياسة الموحدية كل ما يملكون من تأييد معنوي و مادي... أما مصامدة السهول – و دكالة تمثل قوتهم العظمى – فإنهم اتخذوا موقفهم المتصلب. وهم تلاميذ المرابطين الذين انقذوهم من تسلط برغواطة و مذهبيتها المنحرفة... فكيف ينسون هذا بين عشية و ضحاها، و كيف يتنازلون عن مذهبيتهم السنية التي تزخر مساجدهم و رباطاتهم و زواياهم بعدد من الرجال يدعون إليها ويثبتون الناس على التمسك بها..؟
و يحاول المفسرون للتاريخ أن يربطوا بين هذا الموقف الذي اتخذته دكالة و جاراتها، و بين اتاحة الموحدين الفرص لموجات من الهلاليين للنزول بالسهول المغربية، و منها دكالة... ومضايقة و مدافعة السكان جزاء تصلبهم إزاء مذهبية الموحدين...
كما يحاولون في نفس الوقت أن يربطوا بين نزول الموجات الهلالية، و بين التعريب الشامل للأقليم كله ... حيث انضمت العناصر الهلالية إلى العناصر المصمودية و الصنهاجية...
و يزيد هؤلاء المفسرون في استنتاجاتهم فيربطون بين نزوح بعض العناصر من دكالة إلى أقاليم أخرى في الغرب و سايس و غيرهما... و بين هذه السياسة الموحدية التي اتاحت الفرصة للهلاليين للنزول بدكالة و مضايقة و مدافعة سكانها...
و يظهر حسب الاستقراء و التتبع الموضوعي لهذه القضية التاريخية أن هذه التفسيرات ليست دقيقة في حجمها و لا منطقية في سائر استنتاجاتها مع التسليم بالمبدأ الأساسي. و هو الموقف المتصلب لدكالة و جاراتها من الموحدين... و محاولة هؤلاء التضييق و التحريج و الانتقام...
و توقفنا من هذه الاستنتاجات المتسمة في عمقها بالجزافية، موقف التحفظ و الاحتياط و الحذر.
فالموحدون حينما جاءوا بالهلاليين و اخوانهم إلى المغرب بعد ان تم لهم الامر في المغارب الثلاثة كانت لهم أهداف متعددة كما نجد ذلك في النصوص التاريخية الموثوق بصحتها... و قد نزل هؤلاء الهلاليون و إخوانهم في اقاليم مغربية و منها دكالة ...
- فإذا كان التضييق الانتقامي هو الهدف ...فهل كان الموحدون يهدفون إلى ذلك في جميع الأقاليم التي نزل بها الهلاليون ... ؟ أظن...لا.
- و لو كان التضييق الانتقامي هو الذي دفع بعض عناصر دكالة إلى النزوح عن ارضها ..لما ترك لها الموحدون الفرصة للنزول بأراض خصبة للغابة كسايس و الغرب و التمتع بخيرات المياه المتدفقة من سبو و روافده...
أما قضية التعريب الشامل في الاقليم كله ، فلها أسباب قبل و بعد الهلاليين و إن كنا لا نشك أن للهلاليين الحظ الأوفر منها...
و مهما كانت دوافع الموحدين...و مهما كانت دوافع النازحين عن دكالة ...فإننا لا نشك أن عناصر هلالية عملت عملها في الحياة الاجتماعية و الاقتصادية بدكالة... منذ عصر الموحدين... كما انه في نفس العصر دخلت إلى دكالة عناصر من الصحراء . و من المعروف تاريخيا أن عبدة دخلت و استوطنت و انساحت في موطنها المعروف و إلى الآن (17)...
و هكذا دخلت عناصر من الشمال : بنو هلال و إخوانهم... و عناصر الجنوب : العبديون واخوانهم من عرب معقل... و كون الجميع دكالة التاريخية ... المعروفة بما ترك عصر الموحدين فيها من تطور في البنية السكانية، و السياسية الموحدية - و لا سيما في عهدها الاخير- عهد التفكك و الصراعات ..تجرعت غصصا من نتائج الاخطاء المرتكبة... بسبب إثارة الحساسيات القبلية ...في الإقليم ... !(18) .
بل ان دكالة شهدت الصراعات الأخيرة التي انتهت بما هو معلوم في التاريخ من طي صفحة دولة الموحدين و قيام دولة بني مرين... بعد صراعات داخلية و خارجية مهدت لقيام الوحدات الأربع .
- دولة بني حفص في تونس .
- دولة بني عبد الواحد في تلسمان.
- دولة بني مرين في المغرب.
- دولة بني الاحمر في غرناطة .
و لقد نضجت في دكالة على عهد الموحدين حركة التربية الصوفية، و التربية العلمية، و ادت كلتاهما رسالة نبيلة إلى دكالة و الدكاليين ، بل جاوز مفعولهما مدن و قرى الاقليم إلى الجيران الأقربين و الأبعدين و شاهدنا إعلام الرسالتين : تتألق نجومهم و يذيع صيتهم داخل المغرب وخارجه...
و في كتاب (التشوف) الشيء الكثير عن هؤلاء الأعلام...
و عند صعود بني مرين إلى الحكم – رغم ما حل بالبلاد أيام المخاض السياسي- انتعشت دكالة اقتصاديا و عمرانيا و ثقافيا ... و لم يقدر لابن خلدون أن يزورها و يدون مشاهداته بها... لكن معاصرة لسان الدين ابن الخطيب زار المنطقة و كتب عنها ما هو مشاهد في كتابي *نفاضة الجراب* و *معيار الاختيار* و غيرهما من كتب ابن الخطيب المفيدة.
كما كتب عنها في نفس العصر ابن قنفذ القسنطيني الذي تولى القضاء بها، و ألف كتابه: (أنس الفقير و عز الحقير).
و هذا الكتاب في أصله مؤلف في موضوع أهل التربية الصوفية و العلمية، لكن فيه إشارات مفيدة جدا عن تاريخ دكالة و معالمها و معاهدها و رجالها. و ما كانت تنعم به إذ ذاك من ثروة ورخاء و ازدهار....
و ابن العظيم الأزموري ألف في هذا العصر كتابهSad بهجة الناظرين) و هو في أصله مؤلف في موضوع مناقب أهل زاوية أمغار إلا انه على العادة تضمن معلومات تاريخية و جغرافية وسياسية عن إقليم دكالة... و غيره من أقاليم المغرب...بل أن به معلومات انفرد بها عن موقف المرابطين من زاوية أمغار و رجالها...

(1) الناضوري: المغرب الكبير الجزء الأول عن التاريخ القديم.
(2) الزبيدي: تاج العروس ج2:ص 323.
(3) دوزي : تكملة المعاجم العربية ج1 ص 454
(4) معجم البلدان ج2،ص 459 ط بيروت 1956م
(5) القاموس المحيط: المادة.
(6) وصف افريقيا الشمالية و الصحراوية ص 45-48-49.
(7) أنس الفقير لابن قنفذ ص:71.ط.الرباط 1965
(Cool راجع أخبار المهدي في عدة صفحات منها : 63-65.
(9) الاستبصار ص 209- الاسكندرية 1958م.
(10) المعجب ص: 341 ط القاهرة 1949م
(11) نظم الجمان ص: 84-87.
(12) البيان المغرب ج 1، ص:28 و ذكرها في الأجزاء الأخرى.
(13) آسفي وما إليه في عدة صفحات.
(14) ابن عبد العظيم الازموري مخطوطة : بهجة الناظرين.
(15) المصدر السابق
(16) الكامل لابن الأثير ج 10، ص: 285 ط بيروت 1966م.
(17) آسفي و ما إليه في عدة صفات.
(18) ابن عذاري: الجزء الخاص بالموحدين الفصول الأخيرة.