مقاومة الاستعمار البرتغالي بالبريجة (1505 – 1769م)


تمهيد :
تعرضت الشواطئ المغربية للغزو الإيبيري منذ العهد المريني، وظهرت ثلاث ممالك مسيحية: قشتالة والأرغون والبرتغال، وتكونت طوائف دينية وعسكرية لمحاربة المسلمين. وتقدمت البابوية بتزكية غزو المغرب؛ فازداد النفوذ البرتغالي، وتشعبت مصالحه في المنطقة، وبدأ يهيئ الظروف ليجعل الشواطئ المغربية تابعة للتاج البرتغالي.
وقد لاحظ د. شوقي عطا الله الجمل أن البرتغاليين لم يكتفوا « بطرد المسلمين من شبه جزيرة إيبريا، بل تعقبوهم في القارة الإفريقية حيث شنوا على المسلمين حربا يمكن أن نعتبرها امتدادا للحروب الصليبية، فقد كان الهدف الديني في مقدمة الدوافع لها، وشارك فيها أكثر من بلد أوربي، كما لعبت البابوية دورا هاما فيها»[1].
وبالرغم من عجز السلطة القائمة آنذاك عن توحيد السلام، إلا أن شرارة المقاومة انطلقت لمواجهة المد البرتغالي، فماذا عن المقاومة المغربية من أجل تحرير مدينة الجديدة التي ارتبط بها البرتغاليون ارتباطاً خاصا؟

أولا: الاستعمار البرتغالي والمقاومة المغربية:

بدأ الاستيلاء على الثغور المغربية منذ أبي سعيد عثمان المريني (800 – 823هـ/1397 – 1420م) حيث احتل البرتغاليون مدينة سبتة سنة 818هـ/1415م.
وبعد محاولات للاستيلاء على طنجة سنة 1437م، تمّ احتلال القصر الكبير سنة 1458م، وتمكن إدوراد الأول ملك البرتغال من احتلال طنجة وأصيلة سنة 876هـ/ 1471م.
وتلك فترة بدأ فيه العهد الوطاسي (876 – 971هـ/1471 – 1553م)، وهي فترة تم فيها الاستيلاء على الثغور الجنوبية للمغرب؛ تباعا في عهد محمد الشيخ الوطاسي (876 – 910هـ/1471 – 1505م)، وولده عبد الله محمد البرتغالي (910 – 932هـ/1505 – 1524م).
وفي عهده ظهر السعديون بناحية سوس سنة 956هـ/1510م، وقد لاحظ صاحب الاستقصا أن البرتغاليين قد أصيبوا بالشره لتملك سواحل المغرب الأقصى،« وجالدوا أهلها دونها، حتى تمكّنوا منها (...) فقويت شوكتهم وعظُم ضررهم على الإسلام، وطمحت نفوسهم للاستيلاء على ما وراء ذلك (...) وكان ذلك كله فيما بين انقراض دولة بني وطاس، وظهور دولة الشرفاء السعديين» [2].
وكان الموقع الحالي للجديدة، أول موقع تم اختياره للاستيلاء على بقية ثغور الجنوب، والانفتاح على دكالة وسوس بخيراتهما الفلاحية. وكان ذلك الموقع يعرف ببرج الشيخ. ( فالبريجة = مازيغن، مانزغان، مازغان).
يقول الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله عن مدينة الجديدة أنها كانت تسمى مانزغان، ثم سميت البريجة ثم المهدومة، وبعدها تجدد بناؤها فسميت الجديدة[3].
وبالرغم مما أظهرته السلطة المغربية آنذاك من تخاذل وضعف، وبالرغم من تفتت المغرب في هذه الحقبة التاريخية، وتهافت البرتغال والإسبان والأتراك عليه؛ فإنه لم يستسلم لأي نفوذ أجنبي.
وهكذا قاوم المغاربة الاستعمار البرتغالي، وأقام الرباطات حول الثغور، ووقف في وجه كل توسع داخل البلاد. فبعد استيلاء العدو على ثغور المسلمين، تبارى المغاربة « في جهاده وقتاله، وأعملوا الخيل والرَّجل في مقارعته ونزاله، وتوفرت دواعي الخاصة منهم والعامة إلى ذلك، وصرفوا وجوه العزم لتحصيل التواب فيما هنالك»[4].
وأعلام هذه المرحلة من المجاهدين، دَعَوْا إلى الجهاد كتابةً وسلوكاً، كما تشير إلى ذلك كتب التراجم. وذكر صاحب الاستقصا أن غارات المسلمين المجاورين للبرتغال، ظلت مسترسلة لا تنقطع عنهم[5].
وقد توالت هذه المقاومة المغربية للاستعمار البرتغالي خلال الوطاسيين والسعديين وبداية العلويين، وذكر د. عبد الهادي التازي أن الثغور المغربية شهدت « كلها ملاحم رائعة في البطولة، فريدة في التضحية، معارك مستمرة لم تفتر أيام الاحتلال. لقد خبر البرتغال في المغاربة طائفة من المفاجآت ومن الخُدَع الجريئة؛ تلقوْا أحيانا وابلا من القذائف التي كانت عبارة عن أكياس محشوة بالعقارب، وأحيانا بكتل من النحل انهالت عليهم باللسع واللدغ فانتفخت وجوههم وأغمضت عيونهم وأقعدتهم إلى الأرض»[6].
فما كان نصيب البريجة (مازغان) من هذه المقاومة؟

ثانيا: المقازمة من أجل تحرير البريجة ( مازغان):

أ – المقاومة في العهد الوطاسي:

زعم البرتغاليون أن قِطَعاً من الأسطول البرتغالي ساقتها العاصفة إلى شاطئ البريجة سنة 1502م، وكان ذلك في عهده محمد الشيخ الوطاسي (1471 – 1505م)، والحق أنه كان أول احتلال لساحل البريجة ضمن خطة عامة للاستيلاء على شواطئ جنوب المغرب.
أول بادرة للمقاومة الشعبية كانت سنة 1505م إثر عودة جورج دو ميلو ( J. Demello) [ وهو أحد نبلاء البلاط الملكي وقائد رماة الفرسان)، فقد عاد دوميلو مع جماعة من البنائين بأمر من الملك البرتغالي مانويل؛ لإقامة حصن بالبريجة. وما أن ظهرت معالم الحصن حتى جاء سكان المنطقة لهدمه وطرد البرتغاليين المغامرين منه،« ففرَّ النصارى إلى البريجة وتحصنوا، وأفسد المسلمون ما كانوا عملوه في تلك الأيام، وأجحروهم بحصنهم [ أدخلوهم في جحورهم]، ووضعوا عليهم الرصد إلى أن فتر عزمهم، ويئسوا من من نجاح سعْيِهم فعاد جلهم أو كلهم إلى لشبونة»[7].
ولا ننسى أن الوطاسيين قد تولوا الحكم تحت شعار الدفاع عن الوطن.

ب – المقاومة في العهد السعدي:

تولى السعديون الحكم تحت شعار مواجهة البرتغاليين، وتطهير الثغور المغربية منهم، فقد استطاع أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي (946 – 964هـ/1540 – 1557م) أن يفتح حصن فونتي 947هـ، بعد أن أقام فيه البرتغاليون اثنين وسبعين سنة، وتركوا له أسفي سنة 948هـ/1541م، وأصيلا وأزمور من غير قتال.
« وفي فجر مارس 954هـ/1547م هاجمت كوكبة من مائة فارس مغربي مدينة البريجة، فواجهها حاكم المدينة « لويز دو لوريرو » ( Louis de Luureiro) مصحوبا بابنه مع مائة وعشرين فارسا وثلاثمائة راجل، فتظاهر المقاومون بالانسحاب لاجتذاب الحاكم ورجاله إلى فخ نصبه القائد حمو بن داود، الذي كان على رأس ستين آلاف فارس، فهلك البرتغاليون ومن ضمنهم نجل الحاكم.
وقد طوق الشريف السعدي عبد الله الغالب بالله البريجة المحتلة من طرف البرتغال بمأتي ألف جندي ( 120000 من المشاة و17000 فارس و13500 من الطلائع مع 24 مدفعا »[8].
وحاصر عبد الله الغالب بالله البريجة سنة 969هـ/1562م، وجهز إليها جيشا كثيفا واستنفر لها قبائل الحوز، وجعل قيادة الجيش لابنه المعروف بالمسلوخ، فحاصر الجيش المدينة أربعة وستين يوما، وحطم بعض أسوارها، ولم يقض الله بفتحها كما قال صاحب الاستقصا[9].
وفي كتاب «نزهة الحدي بأخبار القرن الحادي» أن القائد علي بن تودة دخل البريجة وأخذ أسوراها، وعزم على أن يستأصل في الغد بقيتها (...) فكتب إليه السلطان الغالب بالله ينهاه عنها، فتراجع النصارى إليها بعد أن ركبوا البحر عازمين على الجلاء عنها»[10].
ونقل الناصري عن لويز مارية المؤرخ البرتغالي، وصفا لحصار البريجة، بلغت فيه خيل المسلمين نحو ثلاثين ألفا، والرماة ضعف ذلك، وكان فيهم عسكر الترك المعروف بالبلدروش، وكانوا يومئذ جندا للسعديين، وكان معهم عشرون مدفعا ...
وتقدموا إلى البريجة فحاصروها حصارا شديدا، وحاربوها حربا هائلة، وأرسل الترك عليهم أنواع الحراقات. وبعد حصار مرير ارتحل المسلمون فعمل النصارى لذلك عيدا، وأحدثوا في كنائسهم صلوات لم تكن قبل، وذلك بإشارة من بابا بروما[11].
ولاحظ الأستاذ عبد اللطيف الشادلي أن أحمد المنصور (ت1012هـ/1603م)، وهو في أوج عظمته، لم يفكر في تنظيم حملة ضد المراكز المحتلة، مثل طنجة وسبتة ومليلية والبريجة، أما أبناؤه فقد تنازعوا بينهم وتوقفوا عن الجهاد، وبعضهم هادن البرتغال كما فعل زيدان السعدي (1603 – 1627م)، حينما ربط علاقات طيبة مع حاكم البريجة جورج ماسكاريناس ( Jorje Mascarenhas)، وقد زود هذا الأخير زيدان بفرقة من 200 جندي لمساعدته على حروبه ضد الحاحي (1625م)، بالإضافة على عتاد وذخيرة، بل كانت الهدايا تأتي من صاحب البريجة إلى زيدان، بل وتقاطرت على زيدان قبيل ذلك العروض باللجوء إلى البريجة ومنها إلى إسبانيا[12].
وهكذا توقف أبناء المنصور عن مواجهة الاحتلال البرتغالي، ولم تتجاوز سلطة السعديين المناطق المحيطة بمراكش من سنة 1626 إلى سنة 1658م، وتقاسمت البلاد ثلاث قوى سياسية: أبو حسون السملالي في الجنوب الغربي، والدلائيون في وسط وشرق المغرب، والعياشي في الشمال الغربي وفي الغرب[13].
أمام التراجع الذي عرفته الدولة المغربية؛ ظهرن زعامات في رجال الجهاد والتصوف، وقبل نهاية القرن السادس عشر، ظهرت مجموعة من الزوايا أشهرها: الزاوية الناصرية (1576م) والزاوية الفاسية (حوالي 1581م) والزاوية الدلائية (حوالي 1655م).

ج – جهود العياشي في تحرير البريجة:

حين عجزت الدولة السعدية عن متابعة الجهاد، كان من بين المجاهدين الذين ربطوا في الثغور، ووقفوا في وجه البرتغاليين؛ فقيه متصوف، هو محمد بن أحمد المالكي، المعروف بالعياشي (9080 – 1051هـ/1573 – 1542م)؛ تلميذ عبد الله بن حسون أحد أولياء سلا، وقد وجهه شيخه لمحاربة البرتغاليين بالبريجة، فاستقر العياشي بناحية أزمور حوالي عشر سنوات، وعرف الناس رغبته في الجهاد، فطلب السكان من زيدان السعدي، أن يوليه قيادة أزمور وناحيتها، فاتجهت عنايته إلى طرد البرتغاليين من شواطئ الغرب ودكالة. ويذكر اليفرني أن أهل البريجة كانوا قد عقدوا الهدنة مع أهل أزمور مدة، فكان من عزة النصارى وذلة الإسلام في هذه المدة، ما تتفطّر منه الأكباد، فقد أصبحت زوجة قبطان البريجة تُستقبل بالزغاريد والولائم والهدايا خارج المدينة[14].
وظل العياشي يراقب تحركات البرتغاليين بالبريجة، يشتبك معهم في حروب، ويحصل على غنائم وأسرى، وكان يبعث بها إلى زيدان بمراكش.
يقول الناصري عن العياشي:« وكانت له مع نصارى الجديدة وقائع، وضيّق عليهم حتى منعهم من الحرث والرعي، فبعث النصارى إلى حاشية السلطان زيدان بالتحف ونفائس الهدايا؛ ليعزلوا عنها أبا عبد الله المذكور؛ لمضايقته لهم، فخوَّفوا السلطان زيدان عاقبته وحضُّوه على عزله (...)، وأنه يُخشى على الدولة منه»[15].
وعموما ظل زيدان السعدي مسالما للحكام البرتغاليين بالبريجة، وراحوا يقدمون إليه المدافع في كل المناسبات.
وتوفي زيدان سنة 1037هـ/ 1627م، وظلت البريجة في أيدي البرتغاليين تنتظر إلى حدود 1182هـ/1768م، حيث سيتم تحريها على يد السلطان العلوي محمد بن عبد الله.
فكيف تم ذلك الفتح، ذلك ما سنراه في القسم الثالث والأخير من هذه الدراسة.

[ نشر هذا المقال في مجلة الدراسات والإعلام ( القوات المسلحة الملكية، الرقم 282، سنة 1996، ص35 – 38].



[1] الحسن بن محمد الوزان وإنتاجه الفكري والمؤثرات التي تأثر بها: د. شوقي عطا الله الجمل، مجلة المناهل المغربية، وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية، الرباط، العدد 2، السنة 2، مارس صفر 1395هـ/ 1975م، ص244

[2] الاستقصا لأبار دول المغرب الأقصى: أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، تحقيق: جعفر الناصري ومحمد الناصري – ط1 [ الدار البيضاء، دار الكتاب، 1955م]:4/110
[3] التطور الحضاري ومظاهره في إقليم الجديدة: عبد العزيز بن عبد الله، مجلة المناهل، وزارة الشؤون الثقافية، الرباط- المغرب، العدد 27، السنة 10، شوال 1403هـ/ يوليوز 1983، ص37
[4] الاستقصا:4/111

[5] نفسه:5/42
[6] أزمزر مولاي بوشعيب من خلال التاريخ المحلي والدولي للمغرب: د. عبد الهادي التازي، مجلة المناهل العدد 35، السنة 13، ص104

[7] الاستقصا:4/136
[8] التطور الحضاري ومظاهره في إقليم الجديدة، ص88
[9] الاستقصا:5/42

[10] نزهة الحادي: محمد الصغير اليفراني، نشره هوداس – ط2 [ الرباط، مكتبة الطالب، د.ت]، ص49

[11] الاستقصا:5/43
[12] الحركة العياشية، حلقة من تاريخ المغرب في القرن 17: عبد اللطيف الشادلي – ط1أ الرباط، منشورات كلية الآداب والعلز الإنسانية – أطروحات ورسائل :10 – 1982] ص45 - 46

[13] المرجع السابق، ص48

[14] نزهة الحادي، ص268

[15] الاستقصا: